العينان الخضروان لأمل دنقل بقلم أحمد حسين


العينان الخضراوان.. لأمل دنقل
بقلم/ أحمد عيسى
نقف اليوم متأملين أمام قصيدة "العينان الخضراوان" للراحل أمل دنقل، رحمه الله، ولعل الجديد هنا أننا سنلمح مزايلة الشاعر للهموم السياسيّة، وإن لم يتخلَّ عن تباريحه وهمومه وأحزانه القلبيّة.
يبدو لي أن الشاعر أحس بحاجته إلى نزهة وواحة، إلى رحلةِ هدوءٍ وراحة؛ ليتذكر عيني حبيبته الخضراوين اللتين تشبهان مروحتين تلطفان ما به من رهق الصيف الحار، ولفح النهار القائظ.
هاتان العينان في سحرهما تُشبهان أغنيتين هزجتين مسافرتين أُرسلتا عبر ناي الرُّعاة ذي الشجن الأسِيف المعروف، والحنان الممتد المألوف، المتدفق شديد التأثير في النفس كأنه شذا نرجس أو عبير أُقحوان.
إنه ناي حزين حنون يتناغم وأجواء الحزن المخيمة على مدن الشاعر التي تعيش داخله، ويجوس هو خلالها فيما يحاكي برقية عزاء من نُور إلهي يصل إلى قلبه فينعشه ويُنسيه، ويجلوه ويُسليه، ويُسرِّي عنه ويُرضيه.
استمع إلى أمل:
العينان الخضراوان
مروّحتان
في أروقة الصيف الحرّان
أغنيتان مسافرتان
أبحرتا من نايات الرعيان
بعبير حنان
بعزاء من آلهة النور إلى مدن الأحزان
لقد مكث الشاعر مدة عامين يعالج تباريح الهوى وصبوته، ويعاني آلام الحب وآماله وسطوته، كأنه ملَّاح يبتني قارب حب وزورق هوى من عَرَامة شَوْقه، ولهيب عِشْقه، وقد أراد بهذا القارب أن يكون مطيته للإبحار في عيني معشوقته اللتين تجتذبانه لجُزر هادئة ثريَّة بالكنوز.
وكم يطيب للشاعر أن تكون رحلته في العينين رحلة مُحاطة بالمخاطر؛ محفوفة بالمغامرات.
وهو يأمل في تلك الرحلة أن يُصيبه موج البحر أو تلمسه دموع عيني محبوبته حتى يكون هو الغريقَ في عينين غاليتين ينعم فيهما بغطاء من رموشها وأهداب مقلتيها.
إن غاية أمن الشاعر ومنتهى أمله أن يكون مختبئاً في عيني حُبّه باحثاً عن أداة تُنجيه من لذة ممتزجة بألم في رحلة بحثٍ عن يقين وامتزاج، ونجاة وإيمان.
استمع إلى دنقل:
سنتان
وأنا أبني زورق حبّ
يمتد عليه من الشوق شراعان
كي أبحر في العينين الصافيتين إلى جزر المرجان
ما أحلى أن يضطرب الموج فينسدل الجفنان
وأنا أبحث عن مجداف
عن إيمان!
***
وفي توظيف رائع للتراث المسيحي، يستدعي الشاعر صمت الكنائس الخاشع، وصور البتول المرخاة الجفون، في تصوير محبوبته بالعذراء التي سكبت المحبة لبناً يحتسيه ملتمسو البركات ومريدو النفحات خلال طقوس من صلوات الغفران المتبتِّلة، ودعوات الإنابة والقبول الضارِعة.
وهو يرى في إسدال عيني حبيبته أو (صورة العذراء) قرب الحبيب وما إليه وصول، فالعينان قريبتان إلا أنهما مُسبلتان لا تقبلان ولوج الشاعر إليهما في محيط الرؤية؛ بل هو النأي والبُعد بَعْد إرخاء الجفون وما يوحي به من صد وإبعاد وانحسار.. كيف لا؟
والمحبوبة كالعذراء شغلها محرابُ الحب الإلهي الآسر ذي السَّطْوة والقُدَر، عن محبات الناس وإعجابات البَشَر، فشبابها تُفنيه قدِّيسةً ناسكة في ذكر وعبادة للخالق الأكرم؛ وإذاً فلا مجال لتفكير في غيره؛ لأن الله هو الذي اجتباها على نساء العالمين.. انتقاها واصطفاها، فما يضيرها إذا رضي الإله حتى لو غضب عليها الأنام جميعهم.
يقول الشاعر:
في صمت ” الكاتدرائيات ” الوسنان
صور ” للعذراء ” المسبّلة الأجفان
يا من أرضعت الحبّ صلاة الغفران
وتمطى في عينيك المسبّلتين
شباب الحرمان
ويناشد الشاعر العذراء (محبوبته) أن تسمح له بنظرة، أو ترنو إليه بمقلة، فهو المتعطش لِلِحَاظِ العُيون منها وحنان الرموش.
يريد أن يتأكد هل عينا العذراء كعيني حبيبته ذواتيْ اللون الأخضر المريح للبصر، والمنداح للتساؤل والفكر، والمنساب للخيال والنظر، والمتسع كبحرٍ مترامٍ دون شواطئ أو مرافئ أو جُزر؟!!
كم يشقى ويسعد الشاعر ببحثه عن حبٍّ ووصل، وتِيهٍ وعَزْل، ونسيانٍ في بحر الحبّ، عن عينين خضراوين تلوّحان له برموش تحمل نسائمَ باردة، تكفكف ما أصابه من شدة القيظ، وبأس الحرّ، وأسْر وعصف الحُبّ!
يقول دنقل:
ردّي جفنيك
لأبصر في عينيك الألوان
أهما خضراوان
كعيون حبيبي؟
كعيون يبحر فيها البحر بلا شطآن
يسأل عن الحبّ
عن ذكرى
عن نسيان!
والعينان الخضراوان
مروّحتان!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخوض في عناقيد الأدب بقلم المبدعة ندا أبو الهيجا

اعترافات الشاعرة المبدعة ندا أبو الهيجا

لمن في دوحة العلياء أضحى بقلم الشاعر المبدع الدكتور زعل طلب الغزالي